الاستقطاب في وسائل التواصل- خطر يهدد الوعي والمجتمع.

المؤلف: أحمد الجميعة10.11.2025
الاستقطاب في وسائل التواصل- خطر يهدد الوعي والمجتمع.

إننا نعي تمام الوعي أن البيئة المستجدة للتواصل قد فرضت على كاهل المستخدمين اشتراطات القبول بها، سواء أكانوا فاعلين منتجين للمحتوى أم مستقبلين له. فمجرد إنشاء حساب في منصات التواصل الاجتماعي يمثل إذعانًا لتلك الشروط، وأبرزها التحول من بنية فكرية ذات طابع خطي تقليدي إلى أخرى رقمية متطورة. ويعني هذا ببساطة الانتقال التدريجي أو التام إلى عالم افتراضي سيبراني، تحكمه معارف وقيم وأنماط سلوكية مغايرة، وإطار عمل يختلف جوهريًا عما استقر في ممارساتنا السالفة. وبالتالي، تتأثر دوافع وسلوك الاستخدام ومستوى الإشباع أثناء التعرض للمحتوى الحديث، وتتباين الاستعدادات النفسية والاجتماعية في طريقة التعامل مع هذا الواقع المستجد بين شخص وآخر.

هذا الانتقال المتسارع نحو معارف وقيم وسلوكيات جديدة في ميدان التواصل؛ أوجد تقاربًا ملحوظًا بين فرضيات الحتمية التكنولوجية والاستخدامات والإشباعات، وهو أمر يستحق التأمل وتعميق الدراسات بشأنهما. بيد أن ما يهمنا بالدرجة الأولى هو المحتوى المتداول في شبكات التواصل الاجتماعي، حيث تجاوز فكرة التفاعلية والتشاركية ليتبنى مفهوم "الاستقطاب" بجناحيه النخبوي والجماهيري الشعبي. هذا الاستقطاب يحدث بفعل التباين والانقسامات في وجهات النظر بين مناصرين ومعارضين حيال ما يطرح في المحتوى الشبكي من قضايا ومستجدات. ونتيجة لذلك، بزغت متغيرات عديدة كالأيديولوجيا والانتماء والمصلحة والتحيز والصراع وغيرها، لتعزيز عملية الاستقطاب لفكرة أو قيمة أو سلوك بعينه، وبالتالي تهيئة الرأي العام لمدى القبول بها، أو مسايرتها لمرحلة زمنية معينة.

يشير الواقع بوضوح إلى أن تداول المحتوى الشبكي في وسائط التواصل الاجتماعي لا يقتصر هدفه على مجرد التفاعل معه، بل يهدف أيضًا إلى استمالة النخب والجماهير ليكونوا جزءًا منه. فالتفاعل قد يكون آنيًا وليد اللحظة كردة فعل، ويرتبط في الغالب بالاتجاه سلبيًا أو إيجابيًا أو محايدًا، والتعميم عن طريق الانطباعات أو التقديرات أو التعليقات، والتسويق الذي يروج للأفكار أو المنتجات أو الخدمات، والسعي إلى طلب الشهرة عبر زيادة المتابعين أو الخروج عن المألوف. بينما الاستقطاب يمثل عملية أخرى مختلفة تمامًا؛ فهو يرتكز على الانقسام والسيطرة والنفوذ والتضليل والتشكيك وزعزعة استقرار الرأي العام. وهو ما جعل "الاستقطاب المجتمعي" يندرج ضمن قائمة أخطر ثلاثة تهديدات تواجه العالم في المستقبل القريب، ويحتل المرتبة التاسعة ضمن لائحة المخاطر طويلة الأمد، وفقًا لتقرير المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس 2024. وتعتبر شبكات التواصل الاجتماعي وخوارزميات الذكاء الاصطناعي من أهم وأخطر أدوات هذا الاستقطاب.

في الوقت الحاضر، يتبنى الإعلام المعادي فكرة الاستقطاب بدلًا من التفاعلية أو التشاركية في محتواه، ويمارس أدوارًا مشبوهة ومضللة للحقائق ومزيفة للواقع. الأمر الذي يستدعي وعيًا عميقًا من قبل النخب قبل الجماهير في التصدي لعمليات الاستقطاب التي تستهدف المواقف والقضايا المجتمعية والدولية، وبالتحديد في هذا الظرف الزمني الذي تصاعدت فيه حدة الصراع، واشتدت أيديولوجيا الجماعات والأحزاب، وأضحت العديد من القضايا على مفترق طرق مكشوف من الاستقطاب المعاكس الرخيص والتافه في بعض الأحيان.

إن استقاء المعلومات من مصادرها الرسمية الموثوقة، وتجنب الخوض في قضايا تحمل لبسًا فكريًا وسياسيًا، والتحلي بالعقلانية في رؤية الموقف وتقديراته بعيدًا عن تأثير العواطف؛ تمثل كلها مدخلات أساسية لبناء الوعي في هذه المرحلة الدقيقة من عمليات الاستقطاب المجتمعي. ويضاف إلى ذلك التحكم في سلوكيات ودوافع الاستخدام ومستوى الإشباع، حتى وإن فرضت بيئة الاتصال شروطها علينا كمتلقين أو مشاركين. وكما قال الفيلسوف والعالم الألماني ماكس شيلر، حينما تحدث عن مكانة الإنسان في هذا الكون "بإمكان الأشخاص التزام الصمت والاحتفاظ بأفكارهم لأنفسهم، وسيكون ذلك أمرًا مختلفًا تمامًا عن البوح بأي شيء".

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة